رغم أن التنظيمات المتطرفة لا زالت موجودة ونشطة في المنطقة، إلا أنها تلقت ضربات موجعة من قبل الأجهزة الأمنية الوطنية وكذلك بجهود مشتركة من التحالف الدولي ضد داعش ساهمت في اضعافها وحرمانها من كثير من مواردها وحاصرتها في مواقع محدودة. استمرارية هذه التنظيمات مردها إلى البيئات غير المستقرة والتي تغيب عنها السلطة حيث تصبح مأوى لها، ولذلك فإن القضاء النهائي عليها مشروط بالتخلص التام من هذه البيئات واستعادة السلطة الرسمية لها سواء في سوريا أو العراق أو ليبيا أو اليمن.
النجاحات التي تحققت بتفكيك التنظيمات ويشهد لها تراجع قوتها وانكفائها وانطفاء جذوتها مقارنة بما كانت عليه قبل عدة سنوات تمثل دافع لجهد إقليمي مشترك للتصدي لخطر آخر يتمثل في عصابات تهريب المخدرات يدعم جهود الأجهزة الأمنية الوطنية. ولو وضعنا اليوم قائمة بالأخطار الأمنية التي تواجه المنطقة لتصدّرها تهريب المخدرات وترويجها، وهو ما تؤكده الأرقام الهائلة لكميات المخدرات بأنواعها المختلفة التي تضبطها الأجهزة الأمنية في عدد من دول المنطقة وبوتيرة متكررة.
وهنا نلحظ أن الأجهزة الأمنية في الأردن تتصدى بحزم لحرب شرسة من عصابات تهريب المخدرات ما دفع السلطات الأردنية إلى إشراك القوات المسلحة في مهمة المكافحة وذلك لشراسة هذه التنظيمات وتطور قدراتها وامتلاكها سيارات مصفحة وطائرات مسيرة ودخولها في مواجهات مسلحة تنتهي إلى قتلى وجرحى واعتقالات.
إن ما يحدث على الحدود الاردنية السورية مع هذه التنظيمات يمثل معركة عسكرية حقيقية تستمر ساعات طويلة تُستخدم فيها أنواع مختلفة من الأسلحة وهو ما دفع الجيش الأردني للمبادرة لأخذ خطوات استباقية ضد هذه التنظيمات باستهداف مواقعها ومستودعاتها.
حجم المخدرات الهائل التي تضبطها الأجهزة الأمنية في المنطقة، وخاصة في دول الخليج، وكذلك تطور قدرات عصابات التهريب وتماديها واصرارها على الاستمرار في مشروعها التخريبي بالرغم مما تتلقاه من ضربات موجعة يؤكد أن هذا الخطر لا ينحصر على تهديد أمن ومجتمع دولة واحدة، بل يمثل تحدي إقليمي يقتضي جهداً مشتركاً ودعماً للأجهزة الأردنية الأمنية والعسكرية في هذه الحرب الشرسة، خاصة أن التهريب لم يعد قاصراً على المخدرات بل يشمل الأسلحة وهو ما يشير إلى نويا خبيثة لهذه العصابات تتجاوز استهداف الأمن المجتمعي إلى الاستقرار السياسي في المنطقة في ما يبدو أنه مشروع لإجهاض التنمية وإشاعة حالة من الفوضى في المنطقة.
هناك اليوم حاجة لبدء تحرك إقليمي مشترك يساند الجهود الوطنية للتصدي لهذه العصابات الخطرة. هذا التحرك يٌبنى على جهود عربية مشتركة بدأت منذ منتصف التسعينيات حين أقر مجلس وزراء الداخلية العرب الإستراتيجية العربية لمكافحة الاستعمال غير المشروع للمخدرات والمؤثرات العقلية عام 1986 ووضع تسع خطط مرحلية لتنفيذها آخرها كان عام 2019، إضافة إلى وضع خطة إعلامية، وإعداد دراسات وإصدار أدلة ارشادية وتقارير الإحصائية، وعقد مؤتمرات لرؤساء أجهزة مكافحة المخدرات في الدول العربية واجتماعات منتظمة للجان المتخصصة.
تلك كانت ولا تزال جهود في غاية الأهمية، إلا أن التحول في طبيعة التحدي وتصدر الميليشيات المتطرفة المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني لعمليات تصنيع وتهريب المخدرات يقتضي تحول استراتيجي في مقاربة مكافحتها من خلال التعامل معها ليس كمجرد تهديد مجتمعي قائم على تحقيق مكاسب مالية باستهداف الأجيال الشابة وافسادها، بل أنها أصبحت تهديداً أمنياً سياسياً تزداد خطورته وقد تتجاوز القدرات المنفردة للأجهزة الأمنية الوطنية، وهو ما يتطلب التفكير في تأسيس تحالف إقليمي بدعم دولي شبيه بالتحالف الدولي ضد داعش.
ورغم أهمية ما صدر من توصيات عن المؤتمر العربي الـ 37 لرؤساء أجهزة مكافحة المخدرات الذي عقد في الأردن نوفمبر 2023 وكذلك توصيات مؤتمر بغداد الدولي الأول لمكافحة المخدرات في شهر مايو الماضي، إلا أنها توصيات تعكس استمرار المقاربة التقليدية في مكافحة المخدرات وهو ما يتضح من آلياتها: تبادل المعلومات، وتفعيل آليات التعاون والتنسيق، وتطوير الاستراتيجية العربية لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية، وعقد لقاءات دورية، وانشاء مكاتب اتصال، وتنظيم حملات إعلامية. لا شك أن هذه خطوات مهمة، إلا أنها قد لا تتناسب مع النقلة النوعية في نشاط التنظيمات التي تتولى عمليات التصنيع والتهريب والترويج، ولا ترقى لمستوى الخطر الذي تمثله.
إن معركة المنطقة مع المخدرات اليوم ليست مع عصابات إجرامية تقليدية، بل مع مليشيات ذات أهداف وغايات سياسية وتحركها دوافع أيدلوجية وتتمتع بإمكانيات عالية لا يمكن مواجهتها بجهود فردية أو بآليات تقليدية ناعمة بل تتطلب استراتيجية إقليمية صلبة.