“العالم ما بعد كورونا”، “كيف سيبدو العالم بعد كورونا”، “كيف تعيد كورونا تشكيل النظام الدولي”،
هذه عنوان لمقالات ودراسات وحلقات نقاش وكذلك كتب حول تأثيرات جائحة كورونا على العالم لم تكتفي بالبحث في الأثر الصحي للفيروس، بل تجاوزته لإعلان تنبؤات عن تحولات كبرى سيشهدها العالم بسببه، ولن يسلم منها حتى النظام الدولي الذي ستعيد الجائحة تشكيله- حسب تلك التوقعات.
جامعة جون هوبكنز العريقة نشرت كتاباً من ٤٠٠ صفحة تحت عنوان: كوفيد١٩ والنظام الدولي: مستقبل الصراعات، التعاون والمنافسة، شارك في كتابة فصوله الثلاثة وعشرين أسماء كبيرة مثل: غراهام ويلسون ونيل فيرغسون، وجاء في تقديم الكتاب النص التالي: “في حين أن هذا المرض، ولله الحمد، لن يودي بحياة العديد من الأشخاص كما حدث في الفترة من 1939 إلى 1945، فإن آثاره على الاقتصاد العالمي، وعلى الديمقراطية، وعلى الصحة العامة، وعلى الأمن الغذائي، وعلى الحكم سوف يتردد صداها لسنوات قادمة.” هذا النص يكشف أن المشاركين في الكتاب يرون أن الفيروس سيكون له تأثير على النظام الدولي بحجم تأثير الحرب العالمية الثانية.
الان وبعد أن “اختفى” الفيروس وأصبح محاصراً في المختبرات يحق لنا أن نتسأل: كيف يبدو العالم بعد الجائحة؟ وهل حقاً حدثت تلك التحولات الجذرية في النظام الدولي كما رسمت لنا تلك العناوين؟
قراءة للمشهد الدولي اليوم تكشف لنا أنه لم يتغير الكثير، باستثناء تراجع النمو الاقتصادي العالمي، فالقواعد الحاكمة للعلاقات والتفاعلات الدولية بعد كوفيد ١٩ مستمرة كما كانت قبله، والحديث عن الانتقال من الأحادية القطبية إلى التعددية متواصل لأكثر من عقدين، والأنظمة السياسية الداخلية لم تشهد تحولات كبرى بسبب الفيروس. وكما سقط الفيروس أمام جرعات اللقاح(رغم تحذيرات – كالعادة- بظهور متحورات جديدة) فقد سقطت كل التنبؤات المتسارعة عن تأثيراته الكبرى.
اليوم يبدو أن الأمر يتكرر مع عدوان اسرائيل الهمجي على غزة، حيث نقابل الكثير من القراءات المبالغة لتأثيرات هذا العدوان. وهذه بعض النماذج منها:
“حرب غزة وتداعياتها على موازين القوى في النظام الدولي”، “حرب غزة هي نهاية النظام العالمي التي ننتظرها منذ سنوات”، “تحلل النظام الدولي في اختبار حرب غزة “، “غزة وأثرها على النظام الدولي الهش”، “تأثيرات حرب غزة على موقع أمريكا في النظام الدولي”، “هل يصمد النظام الدولي احادي القطبية بعد حرب غزة”، و”المخاطر العالمية الخمس الناجمة عن حرب غزة”.
هذه عناوين كبيرة تشير إلى توقعات أصحابها حدوث تحولات هائلة في النظام الدولي بسبب العدوان الاسرائيلي. ورغم فداحة ما يحدث في غزة وما ترتكبه القوات الاسرائيلية بحق شعب أعزل، والتي سيتذكرها التاريخ كواحدة من اسواء الجرائم بحق المدنيين بعد الإبادة الجماعية في راوندا في 1994 ومذبحة سييربنيتشا في 1995، فلا يبدو أن تأثيراتها السياسية العميقة ستتجاوز حدود نطاق غزة والاراضي المحتلة.
فمهما طال العدوان فلابد أن يتوقف تاركاً أضراراً انسانية ومادية جسيمة، لكن ستعود الأوضاع إلى ما قبل السابع من أكتوبر وينشغل أهل غزة بإعادة بناء ما دمرته آلة القتل الاسرائيلية، والاسرائيليون بمعاركهم السياسية، وتستمر بقية دول المنطقة في متابعة أولوياتها الداخلية، وتنشغل واشنطن بحملاتها الانتخابية، وتنصرف الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة إلى بقية البنود على أجندة عملهم.
إن دروس التاريخ تعلمنا أن التحولات الكبرى في النظام الدولي أو في قواعد اللعبة الدولية لا تحدث إلا في حالات قليلة جداً ونتيجة لأحداث استثنائية: حرب عالمية، تفكك دولة كبرى، تطور تقني جذري (السلاح النووي).
إذاً كيف نفسر هذه النزعة للتبشير بحدوث تحولات في النظام الدولي في كل مرة نواجه بحدث مهم. يبدو أن هناك ثلاثة أسباب لهذه النزعة:
(1) أننا ونتيجة لتسارع الأحداث وتلاحقها والتنافس على قراءتها لم نعد قادرين على تأملها بشكل عميق. فدائماً تجدنا مأخوذين باللحظة الأولى للحدث وما يثيره من زخم حيث تضع هذه اللحظة إطاراً لفهمنا للحدث وقراءتنا لتطوره وأثره، ولذلك تأتي توقعاتنا بشكل مبالغ.
(2) أن هذه القراءة المتسارعة لا تستوعب درجة التعقيد التي وصلتها العلاقات الدولية والتشابك بين مكوناتها من فاعلين وقضايا وأدوات ومؤثرات “تضبط” تأثير كل حدث مهما بلغ حجمه.
(3) أننا مللنا من الوضع الراهن حيث يخضع النظام الدولي لهيمنة أمريكية غربية، ولذلك لا نكف عن التطلع لنظام تعددي نفترض أنه سيكون أكثر عدلاً وتمثيلاً واستقراراً، وهو ما يدفعنا للقراءة السريعة للأحداث الدولية وتفسيرها باتجاه ما نرغب في أن نراه (تحول النظام الدولي الراهن).