مركز الخليج للأبحاث

English

أوكرانيا في ظل غزة

شارك
image_pdfimage_print

 لابد أن نلحظ اننا منذ هجمات حماس في السابع من أكتوبر وما تبعه من حرب إسرائيلية لا تبقي ولا تذر لم نعد نسمع الكثير عن تطورات الحرب في أوكرانيا حيث انصرفت جميع وسائل الاعلام بعيداً عن الجبهة الروسية الأوكرانية الى الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية. ولا شك أن في ذلك دليل واضح على محورية الاعلام في تحديد درجة أهمية الأحداث؛ ففي بداية أي حدث سياسي فإن أهميته تنبع من ذاته فيجذب إليه وسائل الإعلام التي تمنحه أهمية إضافية من خلال تغطيته المكثفة ومتابعة تطوراته وتستمر هذه الحالة لفترة تفقد بعدها وسائل الاعلام اهتمامها فتتراجع أهمية الحدث رغم استمرار تطوراته كونه لم يعد جاذباً لها.  هذا يعني ان أهمية الأحداث اليوم ليست في ذاتها بل في درجة متابعة وسائل الاعلام لها، ولذلك فلابد لأطراف أي حدث أن تعي هذه الحقيقة وتأخذها في الاعتبار في تفاعلها. فعلى سبيل المثال الاقتتال في السودان كان محل اهتمام الاعلام الذي جعله محور متابعة العالم لأكثر من شهر حيث حرص الجميع على التحرك لوضع حد للاقتتال من خلال نشاط دبلوماسي مكثف، أما اليوم فلا يكاد أحد يلقي بالاً لها، فتحولت لحرب منسية، رغم استمرار المأساة في السودان وتوسع نطاقها ما جعل مسؤولة أممية تصف ما يحدث في السودان بالشر المطلق.

وبالعودة للحرب في أوكرانيا فهي لا تزال مستمرة وشهدت خلال الأسابيع القليلة الماضية تطورات لم تجد ما تستحقه من اهتمام.  من بين هذه التطورات مقال كتبه القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية فاليري زالوجني في مجلة الإيكونيميست قال فيه أن الحرب وصلت إلى طريق مسدود. المقال أثار استياء الرئيس الاوكراني فلادومير زيلينسكي ووجه مكتبه الرئاسي انتقاداً للقائد الاوكراني بأن مقاله تسبب في الذعر بين الشركاء الغربيين لكييف، وكان عليه ألا يتحدث عما يجري على الجبهات أو يكشف الخيارات المتاحة. 

 في مقال الإيكونيميست يقول الجنرال زالوجني “إن الحرب تنتقل الآن إلى مرحلة جديدة: ما نسميه في الجيش بالقتال “الموضعي” الثابت والمستنزف، كما في الحرب العالمية الأولى، على النقيض من حرب “المناورة” التي تتسم بالحركة والسرعة. وهذا من شأنه أن يفيد روسيا، ويسمح لها بإعادة بناء قوتها العسكرية، الأمر الذي يهدد في نهاية المطاف القوات المسلحة الأوكرانية والدولة ذاتها.

توصيف الجنرال للحرب كان بهدف بيان حاجة القوات الأوكرانية مزيد من الأسلحة وتحديداً الجوية؛ فالسيطرة على الأجواء أمر ضروري للعمليات البرية واسعة النطاق. يقول الجنرال أن روسيا رغم ما تكبدته من خسائر، إلا أنها لا تزال تحافظ على ميزة كبيرة وتواصل بناء أسراب هجومية جديدة. هذه الميزة جعلت من الصعب على القوات الأوكرانية التقدم؛ فأنظمة الدفاع الجوي الروسية تمنع الطائرات الأوكرانية من التحليق.

وبالإضافة إلى تعزيز القدرات الجوية للقوات الأوكرانية يطلب الجنرال دعم قواته بأنظمة الكترونية بهدف التشويش على إشارات الاتصالات والملاحة الروسية؛ فالحرب الإلكترونية هي مفتاح النصر في حرب الطائرات بدون طيار، والروس متفوقون في هذا الجانب، وما تمتلكه القوات الأوكرانية من منصات التشويش تم إنتاجها في الحقبة السوفيتية. وفي إشارة غير مباشرة لحجم الخسائر التي تكبدتها القوات الأوكرانية يتحدث القائد عن حاجة لتعبئة وتدريب المزيد من الاحتياطيين من المواطنين الاوكرانيين ويشير إلى عوائق كثيرة تقف في وجه التعبئة. المقال يتحدث أيضاً عن حاجة القوات الأوكرانية لأسلحة البطاريات المضادة للمدفعية الروسية، حيث- وكما يظهر في جميع الحروب- تمثل المدفعية والصواريخ والقذائف ما يقارب 60-80٪ من جميع المهام العسكرية.

ويختم القائد الأوكراني مقاله بأن روسيا ستبقى متفوقة في الأسلحة والمعدات والصواريخ والذخيرة لفترة طويلة، وهي تزيد من انتاجها العسكري رغم من العقوبات غير المسبوقة، ولذلك فإن الحرب في شكلها الراهن ستسمر مدة طويلة وتنطوي على مخاطر هائلة للقوات المسلحة الأوكرانية وعلى الدولة الأوكرانية.

هذا تقييم عسكري في غاية الأهمية وقد يكون بدافع اقناع الغرب بمنح أوكرانيا المزيد من الدعم العسكري حيث بدأت مؤخراً تتزايد أصوات في العواصم الغربية تصف هذه الحرب بالعبء، وأن القوات الاوكرانية لا يمكن أن تحدث تغييراً ذا قيمة في ميدان المعارك وهو ما ظهر في محدودية نتائج هجوم الربيع بل فشله في تحقيق أهدافه كما يرى بعض المراقبين.

في المقابل، قد يكون لتقييم القائد الاوكراني تأثير عكسي بتعزيز التردد الغربي في تقديم المزيد من المساعدات من منطلق أن هذه حرب خاسرة، ولعل هذا ما يفسر استياء المسؤولين الاوكرانيين من قائد قواتهم.

ورغم التصريحات العلنية المستمرة وخاصة من الرئيس الامريكي بالالتزام بتقديم الدعم لأوكرانيا حتى تتمكن من استعادة أراضيها المحتلة، فقد زادت مؤخراً تسريبات عن تحركات غربية لإقناع الرئيس زيلينسكي بتسوية سلمية لن تحقق كامل مطالبه التي يصر عليها في خطة السلام التي اقترحها قبل عام.

قناة NBC الامريكية نشرت مؤخراً تقريراً عن جهود أمريكية لحث أوكرانيا على الدخول في مفاوضات مع روسيا لإنهاء الحرب واستخدام حوافز لدفع كييف في هذا الاتجاه ومنها تقديم الناتو ضمانات أمنية لأوكرانيا. هذه الجهود- حسب التقرير- تعبر عن وصول المسؤولين الأمريكيين إلى قناعة بأن القوات الأوكرانية غير قادرة على تحقيق أي انتصارات، وهذا يعيق استمرار تقديم الحكومات الغربية الدعم العسكري بسبب تراجع الرأي العام المؤيد للحرب.  ولا شك أن حرب إسرائيل في غزة تعزز هذه النزعة الرافضة لاستمرار تمويل الحرب وتحمل أعباء حربين لا يوجد قناعة قوية بأهميتهما للمصالح الأمريكية أو الغربية إجمالاً.    

إن هذا التقييم العسكري لحالة الحرب وما يحدث من نقاشات في واشنطن وبعض العواصم الغربية يكشف الوضع الصعب الذي يواجه القيادة الأوكرانية الذي ستتبين آثاره بلاشك خلال الأشهر القادمة، إلا أنهم قد يجدون في بيان وزراء خارجية مجموعة السبع( G7) خلال اجتماعهم الأخير في طوكيو ما يخفف من قلقهم حيث أعلن الوزراء عن التزامهم الثابت الذي لن يتزعزع ابداً بدعم كفاح أوكرانيا من أجل استقلالها وسيادتها وسلامة أراضيها، والالتزام بالوقوف إلى جانبها مهما استغرق الأمر، مع زيادة الضغط الاقتصادي وفرض عقوبات قوية وقيود أخرى ضد روسيا.

أشهر قليلة تفصلنا عن دخول الحرب عامها الثالث، ومن ألان وحتى ذلك التاريخ ستكون الصورة أكثر وضوحاً حول مستقبل هذه الحرب.

Scroll to Top