في يوم واحد نقلت وسائل الإعلام تصريح وزير الخارجية الصينية وانغ يي بأن ” تصرفات إسرائيل تتجاوز نطاق الدفاع عن النفس” وتعليق المتحدث باسم مجلس الامن القومي الأمريكي جون كيربي أن “الوقت لم يحن بعد لوقف إطلاق النار لإسرائيل، فما زال أمام إسرائيل عمل يتعين عليها القيام به لملاحقة قيادة حماس”. هذان القولان يعبران عن رؤيتين متناقضتين بين القوتين العظمتين حول إدارة العلاقات الدولية إجمالاً. وفيهما بيان واضح للإشكالية التي يتكرر طرحها بين دعوة للالتزام بالقانون الدولي واحترامه وهي دعوة تشترك فيها الصين وروسيا وبقية دول العالم، ودعوة للالتزام فيما اتفق الغرب على تسميته بنظام دولي قائم على قواعد وهو ما تروج له الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
فالقانون الدولي يمنح اسرائيل حق الدفاع عن النفس، إلا أنه لا يجعلها تتصرف كيفما شاءت وتشن حرباً هوجاء على أبرياء عزل وتحرمهم من أبسط اساسيات الحياة من ماء وغذاء ودواء وكهرباء وتستمر في قتلهم وتدمير ممتلكاتهم وقسرهم على النزوح من اراضيهم. ولذلك كان وصف وزير الخارجية الصينية في غاية الدقة؛ فإسرائيل تجاوزت نطاق الدفاع عن النفس.
في المقابل نجد أن الموقف الأمريكي والذي عبر عنه أيضاً الرئيس بايدن يعكس تعريفاً خاصاً لمفهوم الدفاع النفس، ويكشف حقيقة المراد بمقولة نظام دولي قائم على قواعد. هذه المقولة- وكما اشتكت روسيا دائماً- تعني أن الولايات المتحدة والدول الغربية من ورائها يوظفون موقعهم المهيمن في النظام الدولي لتعريف القانون الدولي كيفما شاءوا وبطريقة تتفق مع مصالحهم دون غيرهم. فهجمات حماس على المستوطنات الإسرائيلية إرهابية، في حين أن حرب اسرائيل المستمرة من أكثر من أسبوعين على غزة والإمعان في قتل أهلها على مدار الساعة وحصارهم وتجويعهم وتشريدهم حق مشروع يجب دعمه ومساندته.
هذا الانحياز الغربي اللامحدود للعدوان الإسرائيلي يكشف بصورة جلية التحدي الذي يواجه مستقبل العالم في حال نجح الغرب في تمرير مفهوم نظام دولي مبني على قواعد بديلاً عن نظام دولي مستند للقانون الدولي. فالأول يعني أن القوي هو من يحدد القواعد الحاكمة للعلاقات الدولية وفقاً لفلسفته السياسية المستمدة من رؤية حضارية خاصة، في حين أن الثاني يعبر عن قواعد قانونية مشتركة مستمدة من مسيرة طويلة من التفاعل بين الأمم والحضارات تُرجمت في معاهدات واتفاقيات وأعراف دولية متفق عليها من كافة الدول التي تشكل النظام الدولي اليوم، وكذلك تضمَنها ميثاق الأمم المتحدة.
إن ترويج الغرب لمفهوم النظام الدولي القائم على قواعد (هكذا دون تعريف) يؤكد اطروحات المدرسة الواقعية المتشائمة تجاه القانون الدولي والمؤسسات الدولية وتأثيرهما على العلاقات بين الدول وفي توجيه سياساتها وضبط تفاعلاتها. فوفقاً لهذه المدرسة فالدول تحركها مصالحها، ولا تلقي بالاً لأي قواعد سوى تلك التي تضعها هي لتعكس توزيع القوة في النظام الدولي.
إن مقارنة بين الموقف الصيني والامريكي والغربي عموماً تجاه حرب غزة يكشف زيف قلق الغرب تجاه صعود الصين ومزاعمهم حول مدى استعدادها التصرف كقوة كبرى مسؤولة في النظام الدولي. لقد أصبح التساؤل عن قدرة الصين على لعب دور مسؤول في العلاقات الدولية مكوناً ثابتاً في السردية الغربية حول صعود الصين فكثيراً ما نسمع تعليقات من نوع أن “على الصين أن تتصرف بشكل مسؤول” أو “أن تكون لاعباً مسؤولاً على الساحة الدولية”.
ولو أجرينا مقارنة بين تصريح وزير الخارجية الصيني وتعليق المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي والمشار إليهما أعلاه لتبيّن لنا من هي القوة الكبرى التي تتصرف بشكل مسؤول تجاه حرب يمكن أن تتسع دائرتها لتهدد أمن المنطقة كلها. كيف لا تكون الصين لاعباً مسؤولاً وهي من تدعو لإنهاء الحرب وحماية المدنيين وتعلن استعدادها لبذل قصارى الجهد للمساهمة في المصالحة والسلام؟ وفي المقابل هل الولايات المتحدة التي تحرض على استمرار الحرب وتغذي الة القتل بمساعدات عسكرية مهولة تمارس دوراً مسؤولاً كقوة عظمى معنية بالحفاظ على الأمن والسلم الدوليين؟
إن مجرد أن يصرح الرئيس الأمريكي بأن “لا حديث الان عن وقف إطلاق النار في غزة قبل الافراج عن المحتجزين” لهو دليل قاطع على أن واشنطن لا تكترث للأمن والسلام والاستقرار في منطقة طالما ما كانت مصدراً للتوتر الدولي. والأمر أبعد من مجرد تصريحات بل سياسة أمريكية تجمع بين التعبئة العسكرية لصالح دولة تعد الأقوى في المنطقة، وسلوك تصويتي في مجلس الأمن يٌجهض كل مساعِ لإنهاء الحرب كما فعلت واشنطن مع المشروعين الروسي والبرازيلي.
لا يمكن فهم هذا التصرف غير المسؤول من الولايات المتحدة دون الأخذ بثلاثة متغيرات (1) المنفعة السياسية (تسجيل نقاط عند اللوبي اليهودي المتنفذ لصالح بايدن في الانتخابات القادمة) (2) المشترك الثقافي اليهودي-المسيحي (3) ثقافة العنف المتجذرة في التاريخ الاستيطاني للولايات المتحدة.
هذا هو مصدر تشجيع الإدارة الامريكية لحكومة نتنياهو الذي بلغ حد مشاركة بايدن في اجتماع إدارة الحرب الإسرائيلية، وكذلك استمرار التصريحات التعبوية من وزير دفاعه لويد اوستن وأحدثها إعلانه يوم الاثنين عن استعداد بلاده الدخول في الحرب إذا تسع نطاقها. هذا التصريح وإن ظهر كتحذير، إلا أنه يمكن قراءته كتشجيع لإسرائيل لتوسيع دائرة الحرب مطمئنة بأن أقوى دولة في العالم ستشاركها هذه الحرب.
الموقف الأمريكي تجاه الحرب في غزة في غاية اللامسوؤلية، ولذلك حان الوقت لأن تتوقف واشنطن عن التشكيك في الدور الصيني ومطالبة بكين بأن تتصرف بشكل مسؤول. فجميع العالم اليوم يشاهد بكل وضوح من يتصرف بشكل مسؤول، ومن تخلى عن مسؤوليته ويغذي حرباً شرسة راح ضحيتها 2055 طفل حتى يوم أمس الثلاثاء بمعدل 128 طفل يومياً.