كغيره من الأحداث الدولية حضي اجتماع مستشاري الأمن الوطني لمناقشة الحرب في أوكرانيا بمتابعة لحظية من وسائل الإعلام ونشرت على مدى الأيام التي تلت الاجتماع عدة مقالات تشرح وتعلق على أهمية الحدث. وكالعادة انتقل الاهتمام في أقل من أسبوع لأحداث إقليمية ودولية أخرى، ولذلك لم تتبين القيمة الحقيقية والإضافة النوعية للاجتماع رغم أهمية ما نشر من مقالات وما سمعناه من أحاديث. ولعل السبب في ذلك أننا تعودنا على أن نقيس نجاح الاجتماعات بالخروج بحلول تنهي الأزمات التي تعالجها.
الاجتماع بالطبع لم ينته إلى حل يوقف الحرب الروسية الأوكرانية فلم يكن ذلك متوقعاً بالنظر لعدم مشاركة روسيا وعدم استعدادها أو أوكرانيا لتقديم تنازلات جوهرية لا يمكن إنهاء الحرب بدونها. لكن عدم خروج الاجتماع بمقترح أو خطة لإنهاء الحرب ليس المقياس لأهمية هذا الاجتماع، بل إن المقياس الحقيقي هو أن الاجتماع يمثل علامة فارقة في التاريخ الدبلوماسي. فلأول مرة في هذا التاريخ تتولى دول جنوبية نامية ملف قضية شمالية وصفتها مؤسسة راند Rand بأنها أكبر نزاع مسلح تعيشه القارة الاوربية منذ الحرب العالمية الثانية.
تاريخياً تولت دول الشمال “إدارة” كافة الصراعات والأزمات والحروب في الجنوب؛ ترسم مساراتها وتحدد آليات التعامل معها وتؤطر التفكير حولها وتقترح الحلول لها. كانت الدول الغربية (أوروبا والولايات المتحدة) تٌصدّر للدول النامية الأفكار وتضع صياغات الحل لصراعاتها وفي الغالب توظِف تفوقها العسكري والاقتصادي والدبلوماسي لفرض ما تقترحه.
وبسبب هذا التفوق نجحت في استخدام المؤسسات الدولية وتحديداً الأمم المتحدة لتمرير وصفاتها لحل صراعات وإنهاء حروب الجنوب ومنح تلك الوصفات المشروعية الدولية. أنظر على سبيل المثال القضية الفلسطينية وقضية الصحراء الغربية والصراع الهندي الباكستاني على كشمير، وأفغانستان وكوريا ولبنان ومينمار وسوريا والعراق وليبيا والصومال والسودان وبقية الصراعات التي لا تنتهي في أفريقيا والخلافات الحدودية في كثير من الأقاليم وحتى الحروب الأهلية الداخلية التي عانتها بعض الدول النامية. وفي جميع هذه الصراعات حرصت دول الشمال على التفرد بإدارتها.
الخامس من شهر أغسطس 2023 شهد تغيراً جذرياً في إدارة الصراعات الدولية حيث نجد أن دول الشمال تطلب مساعدة دول الجنوب لإنهاء ما اعتبره حلف الناتو أكبر تهديدا للأمن والسلم في أوروبا. لقد استجابت هذه الدول ونجحت في استثمار الفرصة لإثبات قدراتها على إدارة صراع أطرافه قوى كبرى تمتلك أكبر مخزون نووي في العالم. وكما رشح عن المشاورات فقد كان صوت الدول النامية وكذلك الصين، كقوة كبرى، حاضراً بقوة حيث طُرحت رؤى ترشّد السردية الغربية للصراع من خلال منظور شمولي يأخذ بعين الاعتبار مصالح الجميع سواء الأطراف المباشرة أو تلك التي تضررت من تداعياته.
إن استعداد الدول النامية أو ما أصبح يُعرف بالعالم الجنوبي Global South أو الأغلبية العالمية Global majority لبحث قضية تقع ضمن حدود العالم الغربي (روسيا ورغم اختلافها السياسي تبقى ضمن المنظومة الحضارية الغربية)، والذي يتمتع تاريخياً بالهيمنة على النظام الدولي، يعد ترجمة لتحولات مهمة يشهدها العالم أسهمت في تغيير ميزان القوة بين أطرافه فرادى وتجمعات.
المبادرتان الأفريقية والأندونيسية لإنهاء الحرب سبقت اجتماع جدة كمساعٍ جنوبية لصنع السلام في الشمال، إلا أنهما ورغم ما بذل من جهود، رٌفضت مباشرة من طرفي الصراع. فباستثناء لقاءات سريعة عقدها وفد من الاتحاد الأفريقي مع الرئيسين الروسي والأوكراني لم تكن هناك فرصة كافية لبحث جادٍ لما طرح من مبادرات جنوبية.
في المقابل فإن اجتماع جدة ورغم أنه لم يطرح مبادرة محددة فقد وفر منصة مهمة للتشاور حول كيفية إنهاء الحرب بطريقة تجد قبولاً من جميع الأطراف. في جدة توفرت فرصة لدول الجنوب لمساعدة الشمال لإيجاد مخرج من مأزقه وتجاوز عجزه بسبب التشبث بمواقف تصادمية صلبة. ليس أمراً عادياً أن يطلب الشمال “المتقدم” مساعدة الجنوب النامي في إنهاء حرب وحل صراع يخصه فهذا امتياز لم يكن ممكناً حتى مجرد التفكير فيه من قبل.
وهنا يبرز السؤال: كيف تهيأ لهذا الجنوب الذي عانى من الهيمنة والتبعية منذ استقلال دوله أن يكون شريكاً رئيساً للشمال المهيمن في البحث عن حل لقضية شمالية صرفة؟ إجابة هذا السؤال ذات شقين: عام وخاص. أما العام فيتمثل في التحولات التي يشهدها النظام الدولي والتي تظهر في تغير ميزان القوة وكذلك في نزعة الانكفاء الأمريكي عن ممارسة دور القوة العظمى المهيمنة، وهي تحولات أوجدت مساحة للتحرك والمناورة نجحت دول الجنوب في استثمارها لتأكيد حضورها على الساحة الدولية وإعلاء صوتها المستقل تجاه ما تمر به هذه الساحة من أحداث.
أما التفسير الخاص لقدرة دول الجنوب على اقتحام الجغرافيا الشمالية فيتعلق بالمملكة وتنامي دورها واستعدادها لتجاوز التوزيع التقليدي للمسؤوليات على الساحة الدولية التي أنتجتها ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية. هذا الاقتحام السعودي لما كان محظور قبل جدة لم يكن ممكناً لو لا ما تتمتع به المملكة من تقدير واحترام وهو ما يفسر قدرتها على جمع عدد كبير من الدول للمشاركة في المشاورات واستجابة الصين وبقية شركاء روسيا في تكتل بريكس الذين حرصوا دائماً على تبني موقف متفهم للرؤية الروسية لأسباب الحرب، وحرصهم الدائم على ترويج هذه الرؤية في المحافل الدولية. مشاركة الصين وهي المنافس الاستراتيجي للغرب، وكما تحدث مسؤولون صينيون، لم تكن ممكنة لو لم تكن المملكة هي من استضاف الاجتماع وأدار دفته ووجه مساره.
خلاصة الأمر أننا اليوم أمام مرحلة تاريخية من تطور النظام الدولي جعلت الجنوب النامي شريكاً في حل قضايا الشمال “المتقدم” ومكَنت دول مثل المملكة لتلعب دوراً لم تكن الترتيبات السابقة لهذا النظام تسمح به. لذلك على دول الجنوب استكمال هذه المسيرة لتحافظ على صوتها صادحاً ولا تفوت فرصة المشاركة في ترتيب البيت الشمالي؛ حيث يبدو أن الشمال بحاجة لدليل جنوبي يحمل معه ثقافة غنية تمتد جذورها من الصين وحتى غابات الأمازون يعيد بوصلة الشمال لاتجاهها الصحيح.