مركز الخليج للأبحاث

English

كيسنجر وميرشايمر وانتصار المدرسة الواقعية

شارك
image_pdfimage_print

هنري كيسنجر وجون ميرشايمر أكثر شخصين يتكرر اسماهما في الأخبار منذ حرب روسيا على أوكرانيا. كيسنجر- وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي السابق- ورغم تقدمه في العمر (احتفل بعيد ميلاده المئوي قبل عدة أشهر) لا زال له حضور كبير في المنتديات الفكرية وفي وسائل الإعلام يعلق على الأحداث ويفسرها مستنداً لقدرات معرفية هائلة وخبرة دبلوماسية طويلة. ولم يقتصر الأمر على مجرد التعليق على ما يحدث بل لم يتردد أن يكون مساهماً فيه فيقطع آلاف الكيلومترات ليلتقي الزعيم الصيني شي جين بينغ يتداول معه شأن العلاقات الأمريكية الصينية التي تمر بواحدة من أسوأ مراحلها.

أما جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو وصاحب نظرية الواقعية الهجومية فهو الأكثر طلباً للإجابة على هذا السؤال المهم: لماذا قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استخدام القوة العسكرية ضد أوكرانيا واجتاح أراضيها؟

وتنتشر محاضراته في كافة وسائل التواصل الاجتماعي بين الخاصة والعامة وتحديداً في روسيا والعالم النامي كونه يرى أن ما قام به بوتين يمثل رد فعل متوقع ومشروع ضد سياسات أمريكية-غربية عدوانية (توسع الناتو) وزحفه شرقاً نحو حدود روسيا، وما مثَله ذلك من تهديد للأمن القومي الروسي لا يمكن تجاهله، ما ترتب عليه حتمية التصدي له مهما كانت هوية الشخص الذي يتربع على كرسي الحكم في الكرملين.

 لكن ما الذي يجمع بين كيسنجر وميرشايمر؟ القاسم المشترك بين هاتين الشخصيتين هو أنهما ينتميان للمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية؛ كيسنجر ممارساً لما يُعرف بالواقعية السياسية وميرشايمر منظراً للواقعية الهجومية.

ورغم تعدد النظريات والمدارس الفكرية التي تحاول تفسير الأحداث الدولية والتنبؤ بسلوك الدول، إلا أن الواقعية والليبرالية تبقيان المدرستين الأبرز والأكثر تنافساً على احتكار الشرح والتفسير وربما التنبؤ لكل ما يتعلق بالعلاقات بين الدول. ( نشير إلى أن هناك جدلاً حول مدى واقعية  كيسنجر).   

 ودون حاجة للدخول في تفاصيل أكاديمية حول أطروحات المدرستين يكفي القول إن الواقعية تقوم على افتراضات رئيسية ثلاث: الدولة هي اللاعب الرئيس على الساحة الدولية، الطابع الفوضى في هذه الساحة (عدم وجود سلطة منظِمة كما هو الحال في الساحة الداخلية)، وتحقيق الأمن هو الهم والهدف الأول والمركزي لكل دولة، ولذلك فالتنافس والصراع بين الدول بالنسبة للمدرسة الواقعية أمر حتمي.

في المقابل ترى المدرسة الليبرالية أن تطورات النظام الدولي أوجدت أطرافاً لا تقل أهمية عن الدولة، وتفترض وجود مؤسسات وقواعد دولية تضبط العلاقات وتحد من الفوضوية التي تفترضها المدرسة الواقعية، والأمن ليس سوى هدف من عدة أهداف تسعى لها الدول، ولذلك لا تتردد الدول في التعاون وتجنب الصراع حسب هذه المدرسة.

 إن تداول اسمي كيسنجر وميرشايمر في وسائل الإعلام للتعليق على الأحداث الدولية الراهنة يشير إلى تفوق السردية الواقعية في تفسير هذه الأحداث؛ ووفقاً لهذه السردية فإن الأمن لا يزال المتغير الأبرز والمحدد للسياسة الخارجية للدول التي يطغى على علاقاتها التنافس والصراع وتعتمد في الدفاع عن مصالحها على قدراتها الذاتية وعلى تحالفاتها، ولا ترى قيمة كبيرة للقانون الدولي أو المؤسسات الدولية في حماية تلك المصالح. 

في المقابل تغيب تماماً السردية الليبرالية لتفسير الأحداث الراهنة، ولا نجد أثراً لأبرز فرضياتها الأساسية وهي أن كثافة الاعتماد المتبادل بين الدول سيكون له أثر إيجابي في توجيه سلوك الدول ودفعها للتعاون للحفاظ على مصالحها المتشابكة. 

فحين قرر الرئيس بوتين اجتياح الأراضي الأوكرانية لم يأبه بما يترتب على قراره من عقوبات اقتصادية شاملة تتسبب في عزلة الاقتصاد الروسي عن الاقتصاد الدولي وتقطيع روابطه الاقتصادية وحرمانه مما يوفره الاقتصاد الدولي من أسواق وتقنيات متقدمة واستثمارات.

كما لا نرى أثراً لحجم التبادل التجاري الهائل بين الصين والولايات المتحدة ( 660 مليار دولار عام 2022)،والاستثمارات الصينية الكبيرة في سندات الخزانة الأمريكية ( أكثر من ترليون دولار)، والعدد الكبير من الشركات الصينية التي تعمل في السوق الأمريكي والشركات الأمريكية التي تعمل في السوق الصيني في تليين سلوك واشنطن وبكين تجاه بعضهما أو إقناعهما بالتعاون بدلاً من التنافس الذي يصل في حدته أحياناً لدرجة التهديد بالمواجهة العسكرية.

لا نكاد اليوم نسمع صوت أي من أصحاب المدرسة الليبرالية لتفسير ما يحدث على الساحة الدولية سوى قلة تكرر حديثاً لا يلقى صدى بأن ما يجري هو صراع بين أنظمة ديموقراطية وأخرى تسلطية.  أما الفكرة الرئيسة للمدرسة الليبرالية والتي بشرت بها في نهاية السبعينيات بأن زيادة الاعتماد المتبادل بين الدول سيكون له أثر إيجابي على العلاقات بينها ويدفعها للتعاون بدل الصراع فهي غائبة تماماً، ولا نعلم كيف يمكن الدفاع عنها أمام ما نشهده من تنافس استراتيجي حاد بين الولايات المتحدة والصين وكذلك استمرار الصراعات في عدة أقاليم رغم اعتماد دولها على بعضها البعض.

Scroll to Top