مركز الخليج للأبحاث

الاستقطاب في الساحة الأمريكية وأثره على موقف واشنطن على الساحة الدولية

image_pdfimage_print

تزداد المؤشرات على أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة لن تكون سهلة وقد تشهد ما تشهده الانتخابات في العالم النامي من أحداث، وربما يتكرر الجدل حول شرعية النتائج. وكانت أحدث هذه المؤشرات هي قتل الشرطة الفيدرالية لمواطن أمريكي مسن في ولاية يوتاه عند محاولة اعتقاله بسبب نشره تهديدات في وسائل التواصل الاجتماعي وإعلان عزمه اغتيال الرئيس بايدن خلال زيارته للولاية.

تكشف هذه الحادثة وغيرها خاصة الجدل الكبير حول الاتهامات الموجهة للرئيس السابق دونالد ترامب واعتقاد مؤيديه بأن الحزب الديموقراطي يسعى لإدانته كي يحول دون إعادة انتخابه، عن حالة استقطاب سياسي واجتماعي شديدة سيكون لها انعكاساتها على نتائج الانتخابات.

 هذا الاستقطاب بدوره يعبر عن حالة انقسام حاد في المجتمع الأمريكي لا تنحصر في تفاوت الدخل والمستوى المعيشي بل تتعداه إلى صراع حول القيم الاجتماعية وتظهر بشدة في القضايا المتعلقة بالهوية الجندرية. لقد تطور الصراع حول هذه القضية ووصل درجة قد تجعلها قضية انتخابية رئيسة تُنافس الهمَ الاقتصادي الذي يعد تقليدياً المتغير الأول في تحديد خيارات الناخبين.

ورغم أن هذه تبقى مسائل داخلية، إلا أنها قد تترك أثراً على السياسة الخارجية الأمريكية فقد تصرِف الولايات المتحدة ولو مؤقتاً عن ممارسة الحضور الدولي النشط كونها القوة العظمى الوحيدة.

إن أحد أهم الدروس المستفادة من إصلاحات غورباتشوف في الاتحاد السوفيتي والتي استمرت ست سنوات (1986-1991) وما تركته من تحولات في السياسة السوفيتية الخارجية قبل التفكك، هو أن ما يحدث على الساحة الداخلية لأحد أقطاب النظام الدولي لا يقل أهمية في تأثيره على مسار العلاقات الدولية عن تحولات موضوعية في توزيع القوة بين الأقطاب. فالتغيرات والإشكالات الداخلية لقوة كبرى قد تبلغ درجة تشغل النخبة الحاكمة عن الشأن الخارجي وتصرِفها عن الأحداث الدولية، أو حتى تدفعها لاتخاذ قرارات غير متوقعة.

ليست المشكلة في الاستقطاب بحد ذاته، ولكن في شدته وبلوغه درجة تعيق الأجهزة الحكومية من القيام بمهامها، ولعل أبرز مظاهره الخلافات بين البيت الأبيض والكونجرس والذي تظهر تبعاتها في تأخير تعيين السفراء وبقاء سفارات أمريكية في دول مهمة ولفترات طويلة دون سفير يدير العلاقات الثنائية.

وقد لاحظت دراسةُ أثر آخر للاستقطاب السياسي على العلاقات الأمريكية الخارجية حيث تراجع وبشكل كبير عدد الاتفاقيات الثنائية والمعاهدات الدولية التي تدخٌلها واشنطن (من 16 اتفاقية إلى اتفاقية واحدة سنوياً)، والاستعاضة عنها بما يعرف بالاتفاقيات التنفيذية التي تنحصر صلاحية توقيعها على الرئيس دون مشاركة الكونجرس ولذلك لا تصبح قانوناً ملزماً مما يسهِل التخلي عنها لحظة وصول رئيس جديد للبيت الأبيض ( على سبيل المثال اتفاقية باريس للمناخ-الاتفاق النووي مع إيران). لذلك وفي ضوء عدم وضوح الكيفية التي ستخف بها حالة الاستقطاب الحاد في المجتمع الأمريكي وما قد يكون لها من تداعيات خارجية فإن الخيار الأنسب لبقية الدول خلال السنتين القادمتين هو الانتظار وترقب تطور المواجهة الداخلية، والتريث حتى انسدال الستار على المسرح الأمريكي الداخلي.

Scroll to Top