سبق أن كتبتُ منبِهاً من وقوع الدبلوماسية السعودية في الفخ الإقليمي الذي يجعلها أسيرة لأزمات المنطقة التي لا تنتهي، وتصرفها عن استثمار فرص كثيرة لتعزيز مصالح المملكة في هذه المرحلة الراهنة من تطور النظام الدولي، التي تتيح لها ولغيرها من الدول الشبيهة في القدرات السياسية والاقتصادية مجالاً مهماً للحصول على مزيد من التأثير وتعزيز المكانة الدولية.
ومؤخراً حررت التطورات الإيجابية في البيئة الإقليمية الدبلوماسية السعودية من عبء الإقليم ومشاكله المزمنة وأصبحت حاضرة بشكل جلي في السياسة الدولية من خلال نشاط دبلوماسي مكثف، ومشاركة في صياغة سردية الأحداث الدولية. ولذلك من المهم جداً المحافظة على هذا التطور في الدور وتعزيزه من خلال وضع قواعد واضحة للتعاطي مع نشوب أزمات جديدة في الإقليم.
انتقال الحراك الدبلوماسي السعودي إلى المستوى الدولي لا يعني التخلي عن الإقليم وقضاياه فهذا أمر غير وارد على الاطلاق؛ فالإقليم يمثل الدائرة الأولى للسياسة الخارجية السعودية وهو مصدر التحديات والمخاطر وكذلك الفرص. بل إن الحالة الراهنة للإقليم ووضع كثير من دوله يؤكد رأياً أصبح شائعاً بين الدبلوماسيين والمراقبين المختصين بأن المملكة تكاد تكون الدولة الوحيدة التي تتمتع بصفات القائد الإقليمي والتي يعوَل عليها الكثير في معالجة حقيقية للقضايا الأبرز وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وكذلك قيادة توجه عربي مشترك يعلي من الشأن العربي على الساحة الدولية ويضمن صوتاً للعرب في جدليَة ضبط قواعد اللعبة الدولية (القانون الدولي مقابل نظام دولي قائم على قواعد International law vs a rules-based international order)، ومعركة إعادة تشكيل النظام الدولي.
فنظرة سريعة على خارطة المنطقة تكشف أن أكثر دولها عربية وأعجمية غارقة في مشاكل داخلية متراكمة تضطرها للانكفاء للداخل أو الاكتفاء بدور المتفرج لافتقادها لشروط لعب دور فاعل. بعض الدول قد تنشط أحياناً، إلا أنها تفتقد القدرة التي تمكنها من تحمل أعباء مسؤولية الدور الإقليمي. دول أخرى تتحرك إقليمياً إلا أن التباين بين مستوى التحرك والقدرات الذاتية تجعل تحركها لا يتجاوز الدور الوظيفي عند أصحاب المصلحة إقليمياً ودوليا ولذلك تبقى التوقعات تجاهها محدودة.
المملكة وبشهادة المراقبين هي الوحيدة القادرة على لعب دور إقليمي مؤثر يلفت انتباه كافة الأطراف التي تسعى إليه وتطلبه.
في عام 1982 كتب محمد حسنين هيكل أن الحقبة السعودية، وهو وصف للدبلوماسية السعودية النشطة خلال النصف الثاني من السبعينيات، انتهت سريعاً كونها اعتمدت النفط والمال للتأثير على المشهد الإقليمي. اليوم، وإذا صح لنا ان نستخدم هذا الوصف، نستطيع القول أن الحقبة السعودية في نسختها الثانية تعتمد على مزيج من قوة اقتصادية ورؤية استراتيجية وتتحرك في سياق دولي أكثر سيولة وهو ما يمنحها فرصة بقاء أطول وتأثير أكبر.
لا شك أن هناك من قد لا يرضى بهذا الحضور السعودي اللافت على الساحتين الإقليمية والدولية، ولذلك لا حاجة للانشغال بهؤلاء والحذر من الازمات المفتعلة للتشويش على هذا الحضور، وتفويت أي فرصة لإشغال الدبلوماسية السعودية فيما لا يستحق.