مركز الخليج للأبحاث

المملكة: صوت الجنوب

image_pdfimage_print

على هامش مشاركته في اجتماع وزراء خارجية دول مجموعة العشرين في نيودلهي شهر مارس الماضي، تحدث سمو وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان ضمن حوار رايسينا (Raisina) الذي يعد المنتدى الأبرز في الهند لمناقشة أهم القضايا الدولية، وتنظمه سنوياً مؤسسة أوبزرفر للأبحاث بالشراكة مع وزارة الشؤون الخارجية الهندية.

وفي رده على سؤال المحاور عن كيفية التعاون بين الهند والمملكة كقوتين مهمتين على الساحة الدولية تجاه قضايا الصراع الدولي تضمنت إجابة سموه نصاً أجد فيه أحد أبرز ملامح السياسة الخارجية السعودية وهو نص يستحق الوقوف عنده طويلاً لمن أراد أن يفهم توجهات الرياض الراهنة.

وهنا سأنقل النص أولاً ومن ثم أحاول قراءته وبيان دلالاته، حيث قال: “لا يمكننا أن نسمح أن تنفرد أقلية من الدول بوضع أجندة العمل العالمية. يجب أن يكون لكل دولة صوت. يجب أن يكون لكل دولة مصلحة. إن دولاً مثل المملكة لديها القدرة ـــ بسبب حجمها وثقلها الاقتصادي ـــ على إعلاء أصوات الآخرين، وتحٌمل المسؤولية للقيام بذلك. سنعمل مع البلدان الأخرى لنكون أكثر فعالية وتأثيراً للتأكد من تمثيل مصالح كل بلد عندما توضع أجندة العمل العالمية خاصة في الشأن الاقتصادي”.

هذا النص يكشف بكل وضوح في أن المملكة لا تتحرك على الساحة الدولية من منظور ضيق للمصلحة الوطنية كما هو معتاد من كثير من الدول، بل تنطلق من رؤية تضامنية عالمية وشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، وضمان ألا تتعرض مصالحهم للتهميش بسبب توزيع القوة في النظام الدولي بين أقلية تتمتع بقدرات وموارد هائلة، وغالبية محرومة من الموارد التي تمكنها من لعب دور فاعل ومؤثر.

هذا التباين الهائل في توزيع القوة وكما يظهر خلال مراحل مختلفة من التاريخ الدبلوماسي ينعكس مباشرة على تحديد أجندة العمل الدولية من حيث ترتيب القضايا الدولية التي يجب التصدي لها وكذلك كيفية معالجتها وتأطيرها وقنوات العمل المناسبة للتعاطي معها.

هذا النص يقدم رسالة واضحة بأن المملكة تتمتع بالقدرة السياسية والاقتصادية الكافية التي تمكنها مع غيرها من الدول التي تشاركها ذات التوجه في الحفاظ على المصلحة العامة للجميع وتعزيزها، وأنها لن ترضى بتفرد القوى الكبرى بتحديد مصير العالم وترتيب قضاياه المهمة وتوجيه وضبط الحوار حولها.

حديث الوزير لا يعكس مجرد رغبة تعلنها السعودية، بل قناعة تدعمها قدرات اقتصادية ومكانة سياسية، وهذا هو ما يميز المملكة؛ فالأمر لا يتعلق بتطلعات تفتقد لما يسندها من قدرات تجعل الآخرين يدركون أنها تعني ما تقول، وتمتلك القدرة التي تمكنها من تحويل التعهدات إلى واقع ملموس.

يكشف النص أيضاً إدراك المسؤولين في المملكة بأن المساهمة الفاعلة والمؤثرة في إعداد أجندة العمل العالمية وتحديد أولوياتها يقتضي العمل مع الدول المماثلة في القدرات والتوجهات من خلال دبلوماسية جماعية تتحرك في إطار المؤسسات والتجمعات والمنتديات الدولية، ومن بينها مجموعة العشرين، وهو ما أوصى وزير الخارجية السعودي بتوجيه جدول أعمال الاجتماع الوزاري “نحو تحسين الظروف المواتية للحوار والسلام، والحد من الآثار السلبية للمنافسة الجيوسياسية على الاقتصاد العالمي”. 

هذا التوجه له امتداده التاريخي حيث إن مبدأ التضامن يعد أحد ركائز السياسة الخارجية السعودية منذ تأسيسها، إلا أنه اليوم لم يعد محصوراً في دائرة عربية أو إسلامية، بل يتجاوزها ليشمل جميع العالم الذي يقع خارج دائرة القوى الكبرى.

بهذا النص الواضح والمحكم في توصيفه للواقع الدولي نستطيع الجزم بأن المملكة اليوم تمثل صوت الجنوب، صوت الدول النامية التي عانت كثيراً من ترحيل قضاياها وتهميشها. كما أن التوجه يُظهر ذكاء في إدراك الرياض اتساع مساحة التحرك على الساحة الدولية للدول الراغبة والقادرة بسبب انشغال القوى الكبرى بالتنافس الاستراتيجي.

أخيراً لابد أن نشير إلى أن المساهمة في صياغة أجندة العمل العالمية تتطلب تطويراً كبيراً للقدرات البشرية والارتقاء بالمستوى المعرفي في جهاز الوزارة وبعثاتها الدبلوماسية، فهذه المهمة السامية لا يمكن أن تتحقق من خلال نشاط دبلوماسي تقليدي.

Scroll to Top