محاضرة في مركز الخليج للأبحاث للدكتور يزيد صايغ تحت عنوان:”دلالات رحيل عرفات بالنسبة للمشهد السياسي الفلسطيني وعملية السلام”
نوع الفعالية: محاضرة
التاريخ :14 ديسمبر، 2004
الموقع: مركز الخليج للأبحاث
مقدمة
اعتبرت العديد من الأوساط في المجتمع الدولي وفاة ياسر عرفات في الحادي عشر من شهر نوفمبر 2004، بعد استمراره لمدة خمس وثلاثين عاما على رأس منظمة التحرير الفلسطينية وعشر سنوات كرئيس للسلطة الفلسطينية، فرصةً لإحياء عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. غير أن نظرة تقرأ ما بين سطور البيانات الرسمية الصادرة عن العديد من القادة السياسيين عبر العالم، بما في ذلك الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ترفع النقاب عن حقيقة تفيد بأن طبيعة الأهداف والاستراتيجيات والدوافع التي توجه مواقف وسياسات اللاعبين الأساسيين على الساحة الدولية لم تطرأ عليها أي تغييرات جوهرية. الواقع أن ما تردد من بيانات وتصريحات في أعقاب رحيل ياسر عرفات يشير إلى أن الدول التي تضطلع بدور هام في المجتمع الدولي لا يبدو أنها أعادت النظر على نحو جوهري في الوسائل والأساليب الممكن انتهاجها لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وبالتالي فمن غير المتوقع أن تحدث تغييرات لافتة على صعيد السياسات الدولية تجاه هذا الصراع في المستقبل المنظور.
صحيح أن ساحة الصراع الفلسطيني-الإسرائلي تشهد اليوم بروز “فرصة” قد تفتح الباب أمام إمكانية إحداث تغييرات إيجابية في المشهد السياسي الفلسطيني بشقيه الداخلي والخارجي، غير أن ما يُعتبر اليوم فرصة قد يتبخر وتوءد مكامنه، بل ربما يفضي إلى تصعيد وتيرة الصراعات الداخلية، في حال لم عدم حدوث تحول موازي في الموقف والسياسات الإسرائيلية، وهو أمر يبدو بعيد الاحتمال. الواقع أن جميع المؤشرات تُجمع على أن رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون وإلى جانبه الأحزاب الإسرائيلية القومية-الدينية ذات التوجهات اليمينية وجماعات الضغط المساندة للمستوطنين اليهود جميعهم يرون في وفاة ياسر عرفات فرصة من نوع مختلف كليا. بعبارة أفصح، تعتبر هذه الأطراف أنه من الممكن اليوم توسيع وشرعنة المد الاستيطاني الإسرائيلي في كل من الضفة الغربية ومنطقة القدس الشرقية في الوقت الذي يتم فيه تأجيل المحادثات، دون الحديث عن إيجاد حل فعلي للصراع، لفترة لا تقل عن عقد من الزمن إن لم يكن بشكل دائم، حول وضع القدس الشرقية وحقوق اللاجئين الفلسطينيين.
ما يثير القلق العميق أن المشروع الإسرائيلي يحظى بدعم كامل من قبل الإدارة الأمريكية التي غيرت بشكل جذري منذ وصول الرئيس بوش للبيت الأبيض الموقف الأمريكي التقليدي إزاء القضايا السياسية والقانونية والجغرافية المرتبطة بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وفي هذا السياق تلمح التصريحات الأخيرة التي أطلقها الرئيس بوش إلى نية إدارته لتأسيس الدبلوماسية الأمريكية تجاه عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط على السيناريو المشار إليه والذي طالما روج له آرييل شارون. ولعل من بين الأسباب التي تدفع المرء إلى الشعور بالمزيد من التشاؤم كون الدعم الذي عبرت عنه الإدارة الأمريكية لمبدأ إقامة دولة فلسطينية – لاحظ أن من المفارقات الغريبة أن الإدارة الأمريكية أدرجت مبادرتها هذه ضمن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1397 الصادر في شهر مارس 2002- تبين فيما بعد أنه موقف ظرفي ولا يستند إلى ركيزة مبدئية. بدلا من ذلك، أصبح اليوم حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، كما أقره معظم أعضاء المجتمع الدولي وأكده البيان الصادر عن مؤتمر برلين الذي عقده الاتحاد الأوروبي في الخامس والعشرين من شهر مارس 1999، مرهونا بأداء السلطة الفلسطينية التي تعاني من حالة غير مسبوقة من الضعف. السلطة الفلسطينية اليوم مطالبة بالاستجابة لجملة من المطالب حددها الرئيس بوش في الخطاب الذي ألقاه يوم الرابع والعشرين من شهر يونيو 2002 والمتضمنة في نص ” خارطة الطريق” للسلام المقترحة من قبل اللجنة الرباعية والتي تم الإعلان عنها في شهر مايو من عام 2003. الأدهى من ذلك أن تحول حق الفلسطينيين في تقرير المصير إلى مشروع مشروط ومؤقت تم بالفعل قبوله من طرف الأعضاء الثلاث الآخرين في اللجنة الرباعية، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والأمم والمتحدة وروسيا، وبالتالي فإن هذا التحول يجسد تراجعا ملموسا بالنسبة لحقوق الفلسطينيين وضربة موجعة للآمال المعقودة على إمكانية تحقيق سلام دائم في الشرق الأوسط.
إن الطرح الأساسي ضمن الحديث الدائر حاليا حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يدعم احتمال استمرار حالة “اللاسلام” لأمد طويل مصحوبة بعنف متنوع الأشكال ومتذبذب الوتيرة. ولا يعود السبب في ذلك فقط لأن كل المؤشرات، وعلى الرغم من توفر الفرصة الراهنة، تفيد بأن المجتمع الدولي لا يبدي اليوم، وربما لن يبدي في المستقل، رغبة جادّة في اتخاذ إجراءات فعّالة لتفكيك الدينامية التدميرية والهياكل السلبية المفتقرة لعنصر التحفيز التي تقود وتؤطر مسار الصراع برمته. الواقع أن غياب رغبة عدد من اللاعبين الأساسيين في المجتمع الدولي يرتبط ارتباطا وثيقا بترددهم في تجسيد شعورهم بالانزعاج من سياسات تل أبيب في اتخاذ إجراءات فعلية وملموسة لأن ذلك يستدعي بالضرورة مواجهة، أو على أقل تقدير الخروج علناً من تحت عباءة سياسة واشنطن في الشرق الأوسط.
لكن، ومن دون تبني سياسة مميزة، وإن اقتضى الأمر مختلفة، تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، فإن الأطراف الثلاثة الراعية إلى جانب الولايات المتحدة لمشروع ” خارطة الطريق” لا يمكنها بأي حال من الأحوال عقد الكثير من الآمال الواقعية لممارسة ضغوط مجدية على شريكهم الأمريكي، وبالتالي لن يتمكنوا من تحقيق أي تغييرات ملموسة على طبيعة الخيارات السياسية الأمريكية.