حرب إسرائيل والهيمنة الغربية
الحرب الهمجية التي تشنها إسرائيل على مدنيين في غزة والمستمر لما يقرب الشهرين تدل مرة أخرى على عجز النظام الدولي عن منع الظلم وحماية الأبرياء والوقوف في وجه غطرسة القوة. كما تدل هذه الحرب على أن هذا النظام لا يزال تحت هيمنة الدول الغربية بقياده الولايات المتحدة رغم كل ما يقال ويبشر بميلاد نظام دولي جديد قائم على التعددية وتوازن القوة. إن صيحات العرب والمسلمين وبقية شعوب العالم النامي، واكتفاء الصين وروسيا بالتصريحات وتكرار الدعوات لوقف الحرب هي أكبر دليل على هذه الحقيقة.
حرب اسرائيل الشرسة وقتلها آلاف الأبرياء وتهجير مئات الآلاف وتدمير مدن وقرى كاملة بمدارسها ومستشفياتها أمام مرأى ومسمع العالم تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام الدولي ما زال أحادي ولكن ليس بمعنى انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة، كما حدث في التسعينيات مباشرة بعد انهيار الإتحاد السوفيتي، بل هيمنة المعسكر الغربي حيث ما زالت الدول الغربية تتصرف كأعضاء في معسكر أيدلوجي رغم كل ما يشاع عن الايدلوجية من الساحة الدولية. هذه الدول ورغم ما يحدث بينها أحياناً من تباينات، إلا أنها ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ما تزال تجتمع حول مصالح وقيم تٌترجمها دائماً في مواقف مشتركة وهو ما يمكنها من التمتع بنفوذ في الساحة الدولية.
أما ما نسمع عنه من تحول في النظام الدولي نحو التعددية فسيبقى حلماً لا نعلم متى يرى النور؛ فرغم ما يشهده العالم من تطورات تقنية واقتصادية ساهمت في تشتيت القوة، فإن موازين القوة ذات القيمة ما تزال تميل لصالح الغرب. فالصين تمتلك قوة اقتصادية هائلة وعن قريب ستصبح أكبر اقتصاد في العالم، لكن هذه القوة لا قيمة لها في قضايا الحروب والنزاعات، وقد تتمكن بكين من تحويل قوتها الاقتصادية إلى قوة سياسية وعسكرية يوماً ما، إلا أن هذا لا يضمن أن هذه القوة ستكون للخير والسلام ومنع الظلم والغطرسة؛ فالصين تبقى دولة لها مصالحها وأولويتها، وأقصى ما يمكن أن يحدث هو تقديم دعم عسكري وممارسة ضغوط وإطلاق تهديدات- وهذا بالطبع مشروط بأن موقف كهذا يخدم مصالحها- كما ظهر من تجربة الاتحاد السوفيتي في حرب 1973 على سبيل المثال.
الفرق بين الدعم الغربي من جهة، والدعم الروسي أو الصيني أو أي دعم آخر من جهة أخرى هو أن الأول لا يستند فقط على حماية مصالح، بل يعبر عن قيم أي كان توصيفنا لهذه القيم– ليبرالية ديموقراطية أو ثقافية مسيحية، وهنا فرق هائل؛ فالدعم الذي تحركه مصالح يجعل صاحبه يضبط حجمه بمقدر المصلحة المتحققة له، في حين أن الدعم الذي تحركه قيم يكون مدفوعاً بقناعات راسخة قد تجعل صاحبها يتجاوز أحياناً حسابات المصالح كما هو الحال في علاقة الغرب مع إسرائيل والعرب. ففي حين تتفوق المصالح بين الغرب والعرب (اقتصادية، تجارية، جيوسياسية…)، فإن دعم الغرب الثابت لإسرائيل في صراعها مع العرب تحدده قيم مشتركة، رغم أن إسرائيل وفق الحسابات العملية الدقيقة تعد عبء عليهم.
خلاصة القول إنه وكما أن أقلية تتمتع بالنصيب الأكبر من الثروة في العالم وهو ما يفسر الرخاء الطاغي التي تعيشه مقابل الفقر والعوز الذي تعانيه مئات الملايين من البشر، فإن أقلية (غربية) لا تزال تتمتع بالنصيب الاكبر من القوة ذات الأثر. نعم هناك اليوم قوى تمتلك قدرات هائلة وتحديداً الصين وكذلك روسيا التي تتمتع بقدرات نووية كبيرة، إلا أن تأثيرهما في الشأن الدولي يكاد يكون معدوماً، وفيما عدا القضايا ذات التأثير المباشر على أمنهما القومي، مثل أوكرانيا بالنسبة لروسيا وتايوان للصين، فإن تأثيرهما في قضايا الأمن والسلام الدوليين ينحصر في حق الاعتراض في مجلس الأمن. وحتى هذا الحق له حدود كما رأينا في حرب الولايات المتحدة على العراق، وكذلك حرب كوسوفا في عام ١٩٩٩ حيث تدخل الناتو في تجاهل تام لما تعودنا على تسميته بالشرعية الدولية.