صعود الصين
بدعوة من مركز الصين للدراسات الدولية والاستراتيجية والجمعية الصينية للعلوم العسكرية أتيحت لي الفرصة للمشاركة في منتدى شيانغشان في بكين في دورته العاشرة الأسبوع الماضي التي انعقدت تحت عنوان: “الأمن المشترك والسلام الدائم. شارك في المنتدى مسؤولون وأكاديميون وقيادات عسكرية من تسعين دولة من بينهم اثنان وعشرون وزيرا ونائب وزير دفاع. لقد ظهر لي أن المنتدى يمثل منصة للصين لبيان رؤيتها للقضايا العالمية؛ حيث إن أغلبية المشاركين من الدول النامية كما يمنح المنتدى فرصة لتبادل الرأي بين المسؤولين والخبراء الصينيين وبين زملائهم وسماع آرائهم حول مبادرة الأمن العالمي التي أطلقها الرئيس الصيني شي جيينغ أبريل 2022 وتقوم على مجموعة من المبادئ من أبرزها: أخذ المصالح الأمنية المشروعة لجميع الدول على محمل الجد.
جلسات المنتدى وحلقات النقاش غطت قضايا الأمن الإقليمي في آسيا وأروبا والشرق الأوسط وأفريقيا ودور المنظمات الإقليمية مثل منظمة شنغهاي وآسيان كما تطرقت للتحديات الجديدة التي تواجه الأمن العالمي ومن أبرزها الذكاء الصناعي وتطبيقاته المحتملة في مجال الأمن، إضافة إلى حوار حول الكتاب الأشهر في الاستراتيجيات العسكرية للقائد الصيني صن تزو فنون الحرب وقيمته التي لا تنتهي طالما استمرت الصراعات والحروب.
رغم هذا التنوع في برنامج المنتدى، إلا أن القضية التي طغت عليه هي صعود الصين كقوة عالمية وتأثير ذلك على الأمن العالمي وتحديداً في شرق آسيا والدور الذي يمكن أن تلعبه في الصراعات الإقليمية. وشاعت رؤيتان تقريباً حول هذا الأمر. الأولى مطمئنة ترى أن هذا الصعود سيكون له آثار إيجابية على الأمن العالمي استناداً إلى قيمة السلام المترسخة في الثقافة الصينية بعد تاريخ طويل من الحروب. فالسياسة الصينية اليوم تجاه جيرانها وتجاه العالم تؤكد على التنمية السلمية التي لا يمكن ضمانها دون تقدير للمصالح المشتركة وجعل الجميع شركاء في قطف ثمار السلام.
الرؤية الثانية كانت تعبر عن القلق من هذا الصعود وتخشى من آثاره ليس تشكيكٌ في نواياً الصين ولكن انطلاقاً من دروس التاريخ التي تكشف أن صعود قوة كبرى جديدة لتنافس قوة كبرى قائمة وبسبب تباين المصالح واختلاف الرؤى حول إدارة هذه المصالح فالنتيجة الحتمية هي التنافس الذي قد يصل حد المواجهة العسكرية. ولذلك ووفقاً لأصحاب هذه الرؤية فإن السلام الذي تعيشه منطقة شرق آسيا منذ انتهاء الحرب الباردة لا يمثل خاصية تنفرد بها هذه المنطقة وتميزها عن تلك المناطق التي تعاني من حروب وصراعات، بل إن السبب هو أن تبعات صعود الصين وموقف الولايات المتحدة- المنفذة في تلك المنطقة- منه لم تبدأ سوى مؤخراً، ولذلك فإن هؤلاء متشائمون بشأن مستقبل الأمن والاستقرار في هذه المنطقة.
أما بشأن دور الصين في بقية مناطق العالم وعلى سبيل المثال في الشرق الأوسط ورغم أن الدبلوماسية الصينية حققت نجاحاً كان محل تقدير في تحقيق المصالحة السعودية الإيرانية، إلا أن المنتدى لم يخل من تساؤلات حول المدى الذي يمكن للصين أن تبلغه في لعب دور نشط في صراعات الإقليم وفي مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي بالنظر إلى ما قد يترتب عليه من التزامات كبيرة قد تصرف الصين عن أولوياتها وتورطها في دوامة إدارة الصراعات وتحُمل تكلفتها الدبلوماسية وربما العسكرية.
الصينيون- مسؤولون وأكاديميون- استمعوا لهذه الآراء حول الصين والقلق بشأن صعودها وناقشوها بكل موضوعية وتفاعلوا مع الأطروحات الأخرى حول قضايا الأمن الإقليمي. لفت نظري تفاعلهم ومشاركاتهم في المناقشات وهو أمر يخالف ما تعودناه منهم في السابق حيث كنا نلتقيهم في مؤتمرات ونجدهم يكتفون بإلقاء أوراقهم دون مناقشة أو تعقيب أو دخول في حوارات جانبية، ولعل ما قاله أحد المشاركين الصينيين يعبر عن هذا التحول؛ فكما تصعد الصين وتزداد ثقة فإن نخبها الفكرية والأكاديمية تصعد وتزداد ثقة أيضاً.
أختم بالقول بأنني قضيتُ أياما جميلة ومفيدة وكُنت طوال الوقت أتساءل عن هذا الصعود وتأثيراته؛ فمظاهر القوة الصينية حاضرة في كل مكان يحيطها انضباط وانتظام شديدان، إلا أن حرص الصين على عزل شعبها من التواصل مع العالم الخارجي كان ملفتاً. أبرز شواهد هذه العزلة- وهي عزلة نسبية بالطبع- هي القطيعة مع تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث الشهيرة. فلا يمكن الوصول إلى هذه التطبيقات والمواقع سوى من خلال برامج لكسر الحجب (vpn) وبعض هذه البرامج غير قادرة على اختراق الحجب.
الصين خلقت لشعبها عالماً افتراضياً خاصًا من خلال منصة وفي شاة wechat وقد حاولَتٌ استخدامها دون جدوى. وحين اِتصلتٌ بشبكة الواي فاي التابعة للفندق أو المنتدى وجدَتُ صعوبة كبيرة في فتح الإيميل أو الصحف أو محرك البحث. كان عرض التجوال الدولي من stc مفتاح النجاة لاستمرار التواصل واستخدام الواتس أب والوصول إلى الإيميل وقراءة الصحف.
هذه القطيعة هي الضمانة لعدم تسرب “التضليل” الغربي للشعب الصيني الذي سيجد ما يكفيه في منصته الوطنية وفي شاة، وقد يكون ذلك مبررا معقولاً، إلا أن ذلك يتسبب في حرمان الشعب بمختلف شرائحه من كم هائل من المعلومات والمعرفة التي تُنتجُ في جميع أنحاء العالم وفي كافة المجالات على مدار الساعة. كما قلنا فإن مظاهر القوة الصينية واضحة للعيان والشعب للصيني ليس في قطيعة تامة مع العالم الخارجي كما كان قبل بدء سياسة الانفتاح الاقتصادي أربعة عقود مضت، وقد تعني أيضاً أن الصين قادرة على سد هذا الفراغ المعلوماتي والمعرفي فهي مكتفية ذاتياً بالنظر لحجمها السكاني. تبقى هذه تساؤلات مفتوحة على المستقبل، والمؤكد أن العالم بحاجة لصعود الصين ليخفف ولو بشكل محدود الخلل الراهن في النظام الدولي الذي كشفت مأساة غزة مساوئه وأضراره على العالم.