قراءة في كلمة الرئيس بوتين أمام منتدى فالداي
كعادته السنوية ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلمة افتتاحية في اجتماعات منتدى فالداي خلال دورته العشرين الذي عُقد في مدينة سوشي خلال الفترة 2-5\10\2023 تحت عنوان “التعددية القطبية العادلة: كيفية ضمان الأمن والتنمية للجميع”. المنتدى يعد أحد أبرز المراكز البحثية في روسيا وشارك في تأسيسه عام 2004 مجلس الشؤون الدولية الروسي ومجلس السياسة الخارجية والدفاع وجامعة العلاقات الدولية في موسكو ويرتبط بشكل غير مباشر بوزارة الخارجية الروسية.
الرئيس الروسي اعتاد في كلمته أما المنتدى الذي يحضره أكاديميون وخبراء ومسؤولون سابقون من مختلف أرجاء العالم على استثمار هذا الملتقى لبيان رؤيته لأبرز التطورات التي شهدها العالم خلال العام المنصرم وموقع روسيا منها. في هذه المرة وانسجاماً مع احتفال المنتدى بمرور عشرين سنة على تأسيسه عاد بوتين بذاكرته إلى بداية الألفية الثانية وتحدث عن تلك الآمال التي رُسمت حينئذ ببناء نظام عالمي جديد عادل خال من الأيدلوجية والمواجهات العسكرية، تتعاون كافة دوله لمواجهة التحديات المشتركة لدرجة اقتراح انضمام روسيا لحلف الناتو. إلا أن ما حدث جاء مناقضاً لتلك التوقعات، ما أكد أنها كانت تعبِر عن رؤية ساذجة، فالغرب رأى في استعداد روسيا للتعاون والاندماج مؤشراً على ضعف وتبعية، وأن موسكو مستعدة للسير في أعقاب الآخرين دون اكتراث لمصالحها الوطنية.
يقول بوتين إن الغرب استمر في غطرسته ولم يلقِ بال لأحد فقد استمرت الولايات المتحدة في نهجها للهيمنة على الآخرين في الشؤون العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية وحتى في القيم والأخلاق. لم يكن الغرب مستعداً للتخلي عن سلوكه الاستعماري المتشكل عبر قرون؛ حيث إن ازدهاره لم يكن ليتحقق لولا “سرقة المستعمرات”؛ فتنمية وتقدم الغرب كان مبنيا على” سرقة الكوكب بأكمله “. تاريخ الغرب -حسب بوتين- هو عبارة عن توسع لا نهاية له، والنفوذ الغربي في العالم هو “مخطط هرمي عسكري ومالي هائل” يحتاج باستمرار إلى المزيد من” الوقود “، باستغلال موارد الآخرين الطبيعية والتكنولوجية والبشرية. هذا هو السبب في أن الغرب ببساطة لا يستطيع التوقف عن التوسع والهيمنة. النخب الحاكمة في الغرب بحاجة دائماً لعدو من أجل تبرير أعمالهم العسكرية وتدخلاتهم وكذلك للسيطرة داخل التكتلات مثل الناتو، ولذلك لا بد من وجود عدو كي يلتف الجميع حول” القائد “.
ويشتكي بوتين بأن الغرب تجاهل روسيا ورفض مصافحة يدها الممدودة للتعاون واعتبارها شريكاً رغم تراجع المواجهات الأيدلوجية، لأن ذلك يتعارض مع مصالحهم الجيوسياسية وكذلك مع غطرستهم تجاه الآخرين. لقد تعرضت روسيا للضغوط العسكرية والسياسية وتحديداً منذ 2014 بعد الانقلاب السياسي في أوكرانيا، ولذلك اضطرت للتحرك والرد على تلك الضغوط وحماية ومصالحها. الأقلية الروسية في شرق أوكرانيا عانت من عملية تطهير عرقي ممنهج، وقصف استمر تسع سنوات. ولذلك أُطلقت العملية العسكرية الخاصة في شهر فبراير 2024 من أجل وقف تلك الحرب المستمرة منذ 2014 من منطلق أن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس في الاتجاه، وهذا ما يجب أن تفعله أي دولة مسؤولة تحترم نفسها.
وحسب بوتين فإن الأزمة الأوكرانية ليست صراعاً إقليمياً؛ فروسيا هي أكبر دولة في العالم من حيث مساحة الأرض وليست بحاجة لأراض إضافية فلديها مساحات شاسعة في سيبيريا والشرق الأقصى بحاجة للتطوير. كما أن حرب أوكرانيا لا تهدف لإقامة توازن جيوسياسي، بل هي أوسع نطاق وأكثر جوهرية فهي تتعلق بالمبادئ التي يجب أن يؤسس عليها النظام الدولي الجديد.
ويرى بوتين أن اختلاق الغرب للأعداء من أجل تبرير توسعه وهيمنته ليست مقصورة على روسيا، بل حتى الصين والهند وكذلك العرب والمسلمين، وأي دولة تتصرف بشكل مستقل فهي عائق لا بد من إزالته. ولذلك لا بد من تحرير العلاقات الدولية من نهج الكتلة وإرث الحقبة الاستعمارية والحرب الباردة؛ فالدول لم تعد مستعدة لتلقي الأوامر أو جعل مصالحها واحتياجاتها تعتمد على رغبات الآخرين الأكثر قوة.
يقول بوتين أن ما لا تدركه الولايات المتحدة واتباعها هو أن العالم قد تغير ولم تعد الشعوب ترضى بالهيمنة؛ فحقبة الاستعمار قد ولَت ولن تعود أبداً. اليوم هناك حضارات متساوية تمثل تعبيراً فريداً عن ثقافتها وتقاليدها وتطلعات شعوبها، ولا تقبل التبعية ولكل حضارة نموذجها الخاص بها للتنمية المتجذر في ثقافتها وتاريخها، ولا يمكن إكراهها على تبني نماذج مستوردة. هذه التعددية الحضارية لا تعني الانقسام والصدام كما يروجون في الغرب، بل إن العالم في طريقه إلى تآزر دوله الحضارية. إن احترام التنوع الثقافي والحضاري هو الذي سيضمن رفاهية الناس وتوازن المصالح في العالم.
روسيا دولة حضارية أصيلة تشكلت على مدى قرون ذات ثقافات وأديان وأعراق متنوعة ولا يمكن اختزال الحضارة الروسية في قاسم مشترك واحد، ولكن لا يمكن تقسيمها أيضا، لأنها تزدهر ككيان واحد غني روحياً وثقافياً. روسيا كدولة حضارية تعد أحد أسس النظام العالمي الجديد القائم على التعددية.
كلمة الرئيس بوتين تمثل ما يٌعرف في مناهج دراسة السياسة الخارجية النسق العقدي الذي من خلاله ينظر صانع القرار إلى العالم من حوله وموقع روسيا فيه ويحدد موقفه منه ويوجه قراراته تجاهه، وكما يظهر من التوصيفات أعلاه فإن النسق العقدي للرئيس الروسي يتسم بدرجة عالية من التشاؤم تجاه ما يجري على الساحة الدولية، واستعداد لتحديه والتصادم معه لضمان مصالح روسيا كدولة حضارية تتفرد بتاريخ وقيم وتقاليد متجذرة.