هل أصبحت الحروب الدولية شيئاً من الماضي؟
لو ألقينا نظرة فاحصة على خريطة العالم سنلحظ أنه وباستثناء الحرب في أوكرانيا لا يوجد اليوم أي صراع مسلح بين دولتين وهذا أمر يستحق التأمل والبحث في أسبابه ودلالاته. وحتى ما شهده إقليم ناغرنو-كاراباخ في جنوب القوقاز مؤخراً لا يعد حرباً دولية بل صراع داخلي بين أذربيجان والأقلية الأرمنية في الإقليم، وقد سبق أن تحول هذا الصراع إلى حرب بين أذربيجان وأرمينيا وكان أخرها في 2020، إلا أنه تجدد هذه المرة كصراع محلي داخل حدود أذربيجان، ويبدو أن أذربيجان نجحت في قد أنهاء حكم الأقلية الأرمنية في الاقليم.
لا شك أن العالم مليء بالصراعات العنيفة ولا تكاد منطقة تخلو من اشتباكات مسلحة، إلا أن جميع هذه الصراعات تشترك في كونها صراعات محلية مثل ما يحدث في السودان وسوريا واليمن وليبيا وأفغانستان وأثيوبيا وغيرها كثير وخاصة في القارة الأفريقية. وتتنوع جذور وأسباب هذه الصراعات، إلا أن السبب الرئيس يتعلق بتصادم الهويات سواء كانت هويات أثنية أو دينية، إضافة إلى صراعات يغذيها تباين الانتماءات الأيدلوجية والخلاف على تقاسم السلطة والموارد.
اختفاء الصراعات المسلحة بين الدول لا يعني بالطبع انتهاء الصراع الدولي بل هو مستمر ويأخذ صوراً مختلفة ومن ذلك: الصراع العربي الإسرائيلي، والصراع بين الهند وباكستان، والصراع بين الصين وتايوان، وكذلك بين الولايات المتحدة والصين، وبين روسيا والغرب إجمالاً، وبين اليابان والصين، وصربيا وكوسوفو، وتركيا واليونان، وإيران والولايات المتحدة، وكذلك بين إيران وعدد من الدول العربية.
هذه بلا شك صراعات دولية إلا أنها لم تولد تهديداً يجعل أحد أطرافها يصل قناعة بضرورة استخدام القوة العسكرية لإنهاء التهديد. فقط روسيا هي التي توصلت قيادتها في شهر فبراير العام الماضي إلى أن توسع الناتو باتجاه حدودها الغربية يمثل تهديداً لأمنها القومي وبعد أن فشلت في سعيها لاحتوائه من خلال الحصول على ضمانات أمنية مكتوبة من الوليات المتحدة ومن الناتو كان لا بد من استخدام القوة المسلحة والتورط في حرب لا أحد يستطيع الجزم كيف ستكون نهايتها.
بناء على هذا الواقع كيف يمكن لنا أن نفسر “اختفاء” الحرب من العلاقات الدولية؟ هل وصلت الدول إلى قناعة بعدم جدوى استخدام القوة المسلحة لإنهاء خلافاتها؟ إذا كانت هذه الخلافات تعبر عن تعارض حول القيم الأساسية والمصالح، فهل وجدت الدول أن هذا التعارض لا يمثل تهديداً وشيكاً ولذلك فيمكن معالجته من خلال طرق دبلوماسية أو إعلامية (حملات مضادة) أو استخباراتية (دعم معارضة) أو اقتصادية (عقوبات).
هل “اختفاء” الحرب من العلاقات الدولية دليل على أن أسباب نشوبها في السابق قد تلاشت؟ على سبيل المثال كانت الخلافات الحدودية سبباً رئيساً في لجوء الدول للقوة العسكرية. لا شك أن غالبية الحدود قد رٌسمت ولم تعد مصدراً للصراع.
وقد نتساءل أيضاً عن احتمال حدوث تطور في صناعة القرار السياسي وبلوغه درجة من التعقيد تجعل الزعامات السياسية تترد في اللجوء للقوة العسكرية. قد تكون أدركت الثمن الكبير (بشرياً ومادياً) للحروب وعدم ضمان الانتصار فيها؟ هل السبب هو حدوث توازنات في توزيع القوة على المستويين الدولي والإقليمي تجعل الدولة تتردد في استخدام القوة المسلحة ضد خصمها لأنها بدورها مقتنعة بأن الخصم لن يستخدم القوة بسبب التوازن؟
هل للتعقيد الذي شهدته العلاقات الدولية بسبب العولمة واندماج الاقتصاديات الوطنية واعتمادها على بعضها البعض دور في تجنب الدول الدخول في صراعات مسلحة؟
هذه التساؤلات وغيرها تستحق التوقف عندها والبحث لإجابات لها كونها تساعد في تطوير دراسة الصراع الدولي باتجاه المزيد من التركيز على الصراعات المسلحة داخل الدول والبحث في سبل منع حدوثها ومساعدة أطرافها في البحث عن آليات غير عنيفة لمعالجتها. ولابد من أن نلحظ هنا أن هذه الصراعات الداخلية تستمر لفترات طويلة بسبب تجاهلها من المجتمع الدولي في حال عدم وجود مصالح مباشرة أو عدم الخشية من تمددها خارج الحدود. إلا أن ذلك لا يعفي المنظمات الدولية والإقليمية من مسؤولية التحرك الجاد والمتواصل لمعالجة هذه الصراعات من منطلقات إنسانية حيث يقع الأبرياء ضحيتها ويفقد العالم الكثير من موارده بسببها.