في قراءة الأحداث السياسية
الساحة الدولية مليئة بالأحداث الساخنة التي لا تكاد تتوقف فما أن يختفي حدث من على شاشات التلفزيون والصفحات الأولى ومنصات التواصل حتى يظهر حديث بديل يجذب الانتباه وهكذا يجد المتابع نفسه في انشغال وترقب مستمر. هذا الانشغال هو بالطبع أمر اختياري، فليس هناك ما يلزم الأفراد بالمتابعة، فهم من تلقاء أنفسهم يختارون متابعة الأحداث، وبإمكانهم الانصراف عنها والانشغال بما يهمهم ويؤثر على حياتهم من أحداث تتعلق بأحوالهم وبالمجتمع الذي يحيط بهم مباشرة.
ولكن ما تكشفه وسائل التواصل من اتساع دائرة اهتمام عامة الناس بالأحداث الدولية يدفعنا للبحث عن تفسير لهذا الانشغال وعدم الاكتفاء بالتفسير التقليدي الذي يُرجع هذا الانشغال بالقضايا الدولية إلى الفراغ أو لمجرد الرغبة في زيادة المعرفة، حيث يبدو أن هناك قناعة تتشكل بأن ما يجري من أحداث على الساحة الدولية سيكون له تأثير على حياتنا حتى لو لم نكن معنيين مباشرة به.
وليس صعباً معرفة سبب تشكٌل هذه القناعة فمصدرها مسيرة العولمة التي يعيشها العالم والتي بسببها تداخلت المجتمعات وتآكلات الحواجز والحدود ويظهر ذلك بشكل جلي وواضح في الاقتصاد (تأثيرات تقلب أسعار النفط، القلق من انقطاع وصول السلع الغذائية، والتضخم) وكذلك في الثورة المعلوماتية التي -إذا صح القول_ كشفت جميع أسرار العالم، فأي حدث يقع في أي ركن من العالم ينكشف للجميع. كما مكنت وسائل التواصل الأفراد ليس فقط من المتابعة بل حتى المشاركة في تشكيل الحدث من خلال خلق سردية حوله تحل مكان الحدث ذاته. من هنا يجد الناس أنفسهم متورطين في ملاحقة الأحداث وتتبع الاخبار حولها.
ولأن الأحداث السياسية معقدة بطبعها من حيث تعدد العوامل التي تشكلها والأطراف التي تشارك فيها يصبح هناك فرصة للتفسيرات المبسطة التي تسهل على العقل استيعاب هذه الأحداث وتجنبه عبء التفكير المجهد وما يتطلبه من تـأمل وبحث عن معلومات إضافية وعملية تحليل مضنية قد لا تتوفر أدواتها.
ولا ينحصر تأثير الانشغال بكم كبير من الأحداث المتزامنة في نزعة الميل العفوي للتفسيرات المبسطة والمباشرة بل يتجاوزه أحياناً إلى استعداد لقبول القراءات التآمرية التي تجد فرصة للانتشار ينتهزها مروجوها لبث تفسيراتهم التي تعكس قوالب جاهزة من أنماط التفكير يشكلون من خلالها كل حدث عالمي جديد. وهناك خاصية يشترك فيها صانعو التفكير التأمري تتمثل في طغيان المعتقدات الأيدلوجية على نظرتهم للأحداث وللعالم وللحياة بشكل عام.
فالمعتقد الأيدلوجي، أياً كان مصدره (دينياً أو قومياً أو سياسياً ) له قوة هائلة في توجيه طريقة تفكير من يستسلم له، وهذا ما يفسر مشاركة حتى المتعلمون في صناعة وترويج النظريات التآمرية؛ ففي حين يتقبل عامة الناس هذه النظريات طلباً لتبسيط الأحداث المعقدة، فإن صانعي النظريات التآمرية ينطلقون من معتقداتهم الأيدلوجية التي تصنع لهم عالماً متخيلاً من المؤامرات يمنحهم قدرة هائلة على انتزاع الأحداث من سياقاتها وإعادة تشكيلها دون انشغال بأي تناقضات في قراءتهم لها، أو قلق من معلومات أو أدلة تتعارض مع هذه القراءات.
التفكير التأمري يستند على قناعة راسخة بأن الاحداث الكبرى (الصراعات والحروب والازمات الاقتصادية وحتى الكوارث) هي ترجمة لمخططات واعية لقوى كبرى ولا يمكن أن تقع نتيجة سياسات أو إجراءات خاطئة. هذه القوى الكبرى حسب التفكير التأمري لديها قدرات هائلة تمكنها من صنع الأحداث وتوجيهها لتحقيق مصالح محددة سلفاً وهناك دائماً جانب خفي لسياستها.
هذا بالطبع لا ينفي أن بعض الحكومات تقوم أحياناً بأنشطة سرية لا تتكشف حقيقتها إلا بعد مرور زمن طويل نتيجة ظهور معلومات عنها، إما من خلال نشر وثائق رسمية، أو من خلال مذكرات لأحد المشاركين فيها. هذه الأنشطة قد تصنَف بالعمل التأمري، لكنها ليست كذلك دئماً؛ فالمؤامرة (التي تتورط فيها حكومات) تفترض وجود مجموعة محددة من المسؤولين يلتقون بشكل سري ومخالف للأطر الدستورية والقانونية من أجل وضع خطة لتحقيق أهداف غير مشروعة وشريرة.
الحديث هنا ليس عن التفكير التأمري ولذلك لا حاجة للتوسع في مناقشته وبحث أسباب تباين استعداد الافراد لتقبل الاطروحات التآمرية، بل عن كيفية فهم ما يجري من أحداث على الساحة الدولية ولذلك نقترح هنا بعض الخطوات التي قد تساعد على الوصول إلى فهم موضوعي لهذه الأحداث.
أولاً: إدراك الطابع المعقد للأحداث الدولية سواء من حيث تعدد العوامل المؤثرة عليها أو الأطراف المساهمة فيها.
ثانياً: أن عملية صنع السياسات ومهما توفر لها من معلومات وجرى من مداولات ليست محصنة ضد الأخطاء، ولذلك ليس كل ما يحدث هو نتاج لتخطيط دقيق وتعبير لرؤية متماسكة وأهداف مرسومة بعناية.
ثالثاً: عدم اشغال الذهن بملاحقة كل حدث والبحث عن تفسير له فهذا يرتب عبئاً ذهنياً يجعل العقل يسارع لتبني التفسير التأمري من أجل التخلص من تبعات هذا العبء.
هذه الخطوات قد تساعدنا في تضييق مساحة الفكر التأمري التي من بين أسوأ تأثيراتها الاستسلام واليأس باعتبار أن كل ما يحدث هو مخططات دبرت في ليل لا حول لنا ولا قوة تجاهها.